بسم الله الرحمن الرحيم

الموت الذي يسبق الحياة والجهل الذي يسحقه العقل


خلق الله الموت ثم خلق بعده الحياة ولولا الموت لما وجدت الحياة بشكلها الطبيعي الذي نعيشه. فلولا الموت ما تطورت اعضاء الانسان على ما هي عليه من شكل ووضيفة وهو في داخل الرحم. فالاطراف مثلاً تنمو بالشكل الذي يجعل وضيفتها طبيعية بسبب الموت الخلوي في الانسجة الجنينية Apoptosis ولولاه لما صار الابهام ابهاماً في موضعه وحركته ولما صار شكل الوجه و باقي الجسم على احسن تصوير! اي ان الموت ودوره جاء قبل وبعد الحياة. والموت الاخير للانسان هو عبارة عن ولادة لحياة اخرى

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) سورة الملك

اذن فأن الموت خلق قبل الحياة وبقي ملازماً للانسان في خلاياه وعنصر الموت في مورثاته الى ان ينتهي به الى الموت النهائي الذي تنفصل فيه الروح عن الجسد لتدخل الروح في عالم اللاوقت (البرزخ) وهنا يكون الوقت (صفر) لعدم جريان العناصر المادية على الروح. وعليه فان الانسان لايشعر بالوقت الذي يمر عليه اثناء النوم (مع بقاء الروح على اتصال بالجسد) رغم طوله وكذلك هو الحال مع الموت مما يجعل الوقت الفاصل بيننا وبين يوم القيام هو فقط مقدار ما نعيشيه من عمر

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (19) سورة الكهف

{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} (113) سورة المؤمنون

ان الانسان مخلوق ضعيف خلق من ضعف وسيعود سريعاً الى ضعف وما نحن الا في رحلة قصيرة نسافر عبر الزمن الى عالمٍ يكاد يكون مجهولاَ لنا. فالحياة عبارة عن رحلة قصيرة جداً لايستطيع ان يصل بها الانسان الا الى جزء بسيط مما يبغيه أو يريده

أن الموت هو ولادة الى عالم آخر نسبته بالنسبة للعالم الذي نعيش فيه (الدنيا) كنسبة مكان الانسان في الرحم الى عالم الدنيا الواسع. اي ان الموت هو ولادة الى عالم اوسع يشبه ولادة الطفل من بطن امه الى عالم اوسع من رحم الام. ولكن الذي يولد من هذا العالم الى عالم البرزخ الواسع جداً أما ان يكون شقياً او سعيداً بسبب عمله ايضاً. ولابد هنا من الاشارة الى أنه لايمكن لأحد أن يزكي نفسه اين سيكون مهما كان موقعه وعمله وتدينه وعبادته فالذي يزكي النفوس هو بارئها فقط

لقد خلق الله الانسان وجعله اكثر شيءٍ جدلا! فالانسان كفرد يشعر وكأنه مركز الكون يتجسد فيه وان ما يحتويه فكره من مجموعة مباديء دينية او مادية تمثل الدستور الامثل للحياة الذي يجب ان يتبعه الاخرون كلهم. ليس هذا فقط بل ان الكثير من البشر مسلمين كانوا او غير مسلمين يحاولون فرض ما يؤمنون به على غيرهم باستخدام كافة الوسائل بما في ذلك القتل والارهاب والتدمير. وقد منع الله سبحانه الاساءة الى الاخرين و تزكية النفوس

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (113) سورة البقرة

اننا كلنا مسافرون في قطار الحياة فبعد مئة سنة من هذه اللحظة سيكون جميع سكان الارض هم من غير الموجودين عليها الان. اننا سنرحل ولكن سنخلف بعدنا اعمال تتحدث عنا. فالشعوب والامم والافراد الصالحين سيخلفون اعمالاً هي التي تزكيهم. ان الذي خلف للبشرية البنسلين كمضاد حيوي, عمله الخيري مستمر ما دامت الحياة وما دام الانسان والذي صنع لقاح الجدري وجربه على نفسه قدم عملا احبه الله. ان هؤلاء لم يزكوا انفسهم بل زكتهم اعمالهم. فالعضماء لايرون الاشياء الا بما يتناسب مع حجمها بينما ينظر الارذال الى الاشياء حسب مقياس واحد رسمته عقولهم المريضة. فمن لا يتفق فكره او مبدأه وان كان صحيحاً مع افكارهم اتهموه بالكفر وهم اهل الزندقة. ان هؤلاء هم الذين يزكون انفسهم ويقتلون الناس لكي يجبروهم على تبني افكارهم, وهم ارذل البشر ولا يتصفون الا بالجبن والعار الشنيعين

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (49) سورة النساء

ان التأريخ البشري وجزء منه التأريخ الاسلامي مليء بالتكفيريين والزنادقة والخزعبلات التي يجب ان لا تأخذ على علاتها بل هنا يأتي دور العقل في التمحيص والاستدلال. ان الله خلق العقل وربطه بالايمان وبه يثيب ويجازي وبه يحاسب. ومن تبع من غبر ممن سبقه دون ان يستخدم عقله ويتبصر ويستنتج بناءاً على العقل السليم فأنه كالاعمى الذي يستدل بغيره دون أن يعرف هل ان الشخص الذي يستدل به اعمى ايضاً ام بصير. ولقد وردت كلمة الباب او اولي الالباب في القران بشكل كبير وكذلك هو حال كلمة يتفكرون ويعقلون ويعلمون وغيرها من ردائف وهي كلها ضد الجهل

والسؤال هنا هو هل عندما نزلت الاديان وبضمنها الاسلام استخدم الناس عقولهم قبل وبعد ان اعتنقوها؟ قد يبدو هذا السؤال غريباً للبعض ولكن القران الكريم انطلق من نفس الاتجاه عنما استخدم الالباب والعقول والتفكر. وهو الذي قال:

{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (14) سورة الحجرات

أن التاريخ الاسلامي مليء بالمجموعات والافراد الجهلاء الذين لايرون الا انفسهم وافكارهم ويصورون للناس بان ابواب الجنة مشرعة لهم على مصراعيها وان ابواب الجحيم تكاد تلقف كل من خالفهم الرأي او الهوى. وان هؤلاء لايدعون فرصة تفوتهم دون ان يبحثوا عما يحلل لهم الملذات. وتراهم يقتلون باسم الله وباسم الدين ويغتصبون الاعراض باسم الدين ويمتلكون العبيد باسم الدين وينكحون مئات النساء (كأماء) باسم الدين. وقد اثرى منهم واصبح من اصحاب الملايين عدد كبير وصار الزي الخاص باللحى الطويلة والملابس القصيرة واعواد الخشب المدسوسة في الفم هو النموذج للاسلام الحق! اما اهل العمائم والجلاليب ومن شابههم فقد تسلط عدد كبير منهم على رقاب الناس بالدين وصار كل من التحى وقصر وتعمم وعبس بوجهه قليلاً يصدر الفتاوي ويحلل الحلال ويحرم ما يحلو له حتى اتخذ من ذلك سلطة ووضيفة. ومن ذلك ولد الارهاب وفرخ امراء يذبحون الناس ومأمورين لايعرفون من الحياة الا ما يصل الى افواههم وما يخرج من ادبارهم. ولانبالغ اذا قلنا ان هؤلاء لايفرقون بين معاطسهم و بين مضارطهم فالذي يقتل البشر دون ان يعرف لماذا ودون ان يعرف من هو القتيل هو ادنى من البهيمة التي تأكل عذرتها. وان الذي يقتل دون ان يستطيع سؤال اميره الارهابي او يمتنع خوفاً من القتل يمكن ان يفعل كل ما يطلبه منه اميره وأن كان لينكحه او ينكح من له علاقة به

ان الفرق بين الانسان والحيوان هو ان الانسان يمتلك العقل الذي فيه يمكن له ان يميز بين الخطأ والصواب بينما تكون قدرات الحيوان العقلية محدودة مع ان هذا لايعني انعدام الذكاء النعي لديه. وعلى هذا الاساس فان الانسان اذا احسن استخدام عقله يرتقي الى منزلة تقترب من منزلة الملائكة كلما ازدادت حكمته وعقله ويتردى الى انحطاط سحيق الى ما هو ادنى من الحيوانات كلما ازداد جهله وقلة حكمته

وهنا نستنتج بأن التوعية الصحيحة وتعليم المسلم دينه الحنيف هي مسؤولية كبرى يجب تبنيها باعادة كتابة التأريخ الاسلامي وبشكل يجعل كل شيء مفتوح للنقد البناء دون المساس والتجريح والشتم. ان ايصال الفكر الصحيح هو من واجب علماء الدين المخلصين وهو من اهم الطرق التي تقطع دابر الارهاب

أن حكومة العراق مطلوب منها اعداد برنامج توعية وتثقيف يوجه الشباب التوجيه الصحيح وتوضف له طاقات هائلة من السنة والشيعة. فالارهاب كما تعلمنا وسمعنا يأتي للشباب عن طريق التغرير بهم بواسطة الدين والجهاد. وعليه يجب وضع برنامج متكامل لكي ينقذ الشباب من الانحراف ويجب ان يكون هذا البرنامج من مسؤولية الاعلام والوزارات والدوائر والنقابات والنوادي والجوامع والجوامع والجوامع. واننا نركز على الجوامع لان قسم منها اصبحت اماكن تستغلها مجموعات ارهابية لتمرير افكارها على الشباب الساذج. ان على حكومة الجعفري ان تدرس عملية استحداث او اعادة وزارة الشؤون الدينية وضم كل من الوقف السني والشيعي اليها لكي لاتسود الفوضى التي تجعل كل يد تعمل لوحدها. فالله الذي خلق للانسان يدين اثنين جعل تنسيق عملهما مرتبط بالدماغ حتى تعمل كلاهما بنسق واحد يفيد ولايضر رغم اختلاف الحركة. وعلى كلا الوقفين ان يسعيا الى الانظمام الى البرنامج الذي يوعي الشباب بتنسيق واحد من تلك الوزارة ويكون البرنامج مكثف يشبه برامج اعطاء اللقاحات التي تحمي من الامراض. فان الارهاب مرض خطير ينتقل عن طريق العدوى الفكرية التي تسري من شخص الى شخص او من شخص الى المجموعة باستخدام فيروسات فكرية معدية قد يكون منشأها اشخاص لوثت الدين بافكار تكفيرية وبقي هذا التلويث يسري في عروق التأريخ. وهنا يأتي ايضاً دور العقل بالتمحيص وليس التقليد الاعمى

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر

انه العقل الذي يسحق الجهل والموت الذي يخلف الحياة باحسن صورها وليس الموت الذي يقتل الحياة ويشوه صورتها

This page is powered by Blogger. Isn't yours?Site Meter